يصعب عليّ أن أرى شخصًا يتألّم.. ربّما لهذا السبب كان من المنطقيّ أن أصبح طبيبة!
في السنتين الأساسية في كلية الطب لم نتعامل مباشرة مع المرضى إلا في بعض الحالات المحدودة.. أحدها حين نظمت اللجنة الاجتماعية زيارة للمرضى المتنومين وبالصدفة كنت من ضمن المجموعة التي ستزور عنبر الأطفال.. كانت تلك أول مرة أرى فيها أطفالًا مصابين بالسرطان أو بالأمراض المزمنة.. تعلّقت فيهم بشدة وزرتهم مرة أخرى مصطحبة معي كمًّا هائلًا من الألعاب والهدايا.. مرّت الأيام والشهور ووصلنا للسنة الرابعة، وكان من ضمن خطّتنا الدراسية منهجًا اختياري واخترت أن يكون طب الأطفال -لا أعرف لماذا؟- وفي أول يوم لي قررت الانسحاب! لم احتمل رؤية الأطفال في ألم.. وضيقٍ.. وبكاء.. صورة الأطفال في ذهني دائمًا سعيدون باللعب وكلّهم حيوية ونشاط فكيف أراهم ممدّين على السرر البيضاء ووجيههم ملؤها البراءة والملائكية ولا حول لهم ولا قوة.. انفطر قلبي ولكنّ قرّرت أن أتغاظى وأتناسى خوفي ومضت الأيام.. إلى أن أصبح طب الأطفال مقرّر لا بدّ منه! وبدأت رحلة الثلاثة أشهر..
صعب جدًا أن تكون شخصًا مرهف الإحساس ودمعتك دائمًا قريبة منك وتحاول دائمًا في كل مرة أن لا ترتبط عاطفيًا بالمرضى! كنت تائهة مابين نارين.. نار أن أكون أنا ملاك التي تهتم كثيرًا، تحب باندفاع، تتأثر سريعًا وحسّاسة جدًا والبعض يخبرها أن شخصيتها لا تصلح لأن تكون طبيبة أصلًا، ونار أن أثبت أني لا أهتم ولا أبالي وأجرّد نفسي من المشاعر كي أصلح أن أكون طبيبة! وكانت الأيام الأولى فعلًا صعبة.. فلا أنا أود التعلق بهم ولا أنا أود أن أكون بلا مشاعر! أريد أن أصل لحالة وسطية أرجوكِ يانفسي!!
الحقيقة أن الأطفال حتى وهم في عزّ مرضهم تجد فيهم روحًا سعيدة.. روحًا تتطلّع للأمل وللمستقبل.. وتجد في أمهاتهم صبرًا مهما بدا القلق عليهنّ، تجد الأمهات متعطّشين لأي كلمة من الفريق الطبي المعالج، يرفعون أيديهن بالدعاء وقلوبهن كلها أمل وإيمان بأنه لا شفاء إلا شفاؤك ياالله..
ذات يوم كنت مع الطبيبة وذهبت معها لرؤية أحد المرضى.. كانت ذاهبة لتخبر الأهل بأن حالة الطفل منهكة.. وأنهم قرروا بالتعاون مع الفريق الطبي وفق البنود والحالة الطبية أن يعلنوا بأن الحالة -DNR- أي عدم إجراء الإنعاش القلبي الرئوي - لا أعرف لماذا ذهبت ولكن أعرف أنني مهما كتبت أو وصفت الموقف لن أستطيع أبدًا أن أوصله كما كان، وبرغم أني كنت أرتجف من داخلي وشعرت بأن دقات قلبي أصبحت متسارعة وقدماي لا تحملاني.. إلا أنّي استمدّيت هدوئي من والدة المريض.. غريب جدًا أن يحصل العكس وأن المريض يطمئن الطبيب ولكنّي كل يوم أؤمن بأن الدروس التي أتعلمها من المرضى تفوق كل الدروس التي تعلمتها من الكتب الطبية! عدت للمنزل ذاك اليوم وأنا أبكي.. بكيت لأني أدركت كمية النعم التي أنا غارقة فيها وأنا لا أشعر.. وبكيت يأسي وحزني ومللي وضعف نفسي أمام الحياة..
مع مرور الأيام وحين تدرس وتكتسب المعلومات وتعتاد على الروتين اليومين تزداد ثقتك نوعًا ما فيزول الضغط الذي كنت فيه.. وهذا ماحصل.. أصبحت علاقتي مع المرضى أكثر من مجرد تاريخ مرضي أكتبه أو فحص أطبقه والسلام.. لأول مرة تسمح لي الفرصة بأن أكون أنا أنا معهم.. وصرت أزورهم.. أحفظ اسمائهم.. أشاركهم اللعب وأنسى نفسي معهم!
يومًا بعد يوم، أحببتهم.. لمسوا نقطة عميقة في قلبي لم يصل لها أحد! وجدت منهم قوة لي ودافع لأن أكون كل يوم أفضل من نفسي التي كنت عليها في الأمس.. وتعلمت الصبر.. والأمل.. والابتسامة في كل الأحوال..
والأمهات يالله. عرفت الآن لماذا جعل الله الجنة تحت أقدامهنّ! كم هي نعمة كبيرة أن تصبح المرأة أم وكم هي مسؤولية أكبر.. حين يتحول عالمكِ من اهتمامك بنفسك فقط ليشمل طفلك، حين تنسي نفسك من أجله وتتغاضي عن انشغالاتك والتزاماتك وخططك فقط لتقضي الليل مع طفلك المحموم.. حين تتغير أولوياتك في الدعاء في وتركِ لنفسك لتصبح أول دعوة لأطفالك.. حين تكونين أم.. أنتِ جنة الدنيا وجنة الآخرة هي تحت أقدامك..
صحيح أننا قضينا ثلاث أسابيع فقط في طب الأطفال ولكني أشعر وكأنها عمر.. كيف تحولت من أول يوم لهذا اليوم وكيف صار قلبي أرقّ وأحن! ومازلت أحاول أن أصل للوسطية في مشاعري.. شخصيتي أبدًا لن تمنعني من أن أصبح طبيبة أفضل! العلم في كل الكتب والمواقع وبإمكان أي شخص أن يقرأ ويتعلم.. ولكن المريض لا يحتاج هذا العلم فقط إنه يحتاج منّا كثيرًا من الإنسانية.. وهذا ماسيجعلك طبيبًا أفضل: حين تعالج مرضاك وتحبهم لأنهم أهلك! وهنا تكمن قمّة الإنسانية.
بغضّ النظر عن خلفيات المرضى الاجتماعية، دياناتهم، معتقداتهم، لونهم، جنسيتهم، وكل شيء قد يصنفهم.. أنت لا تصنّفهم ولا تحكم عليهم بأي شيء لأنك ستعالجهم وتعاملهم كأنهم أهلك.
لا أحد فينا يحتمل رؤية شخص مريض، فكيف لو كان طفلًا.. ولكنها نعمة عظيمة حين يختارك الله ويسخّرك ويجعل شفاء هذا الطفل وضحكاته وعودته ليلعب في المنزل مع إخوته من -بعد إذنه- على يدك أنت!
~
ملاك المرغوب،
الجمعة، ١٢:٤٣ ص
١٨ ديسمبر ٢٠١٥م
يالله ملاك!!! نفس احساسي بالزبط
ReplyDeleteالله يسعدك يارب ، كلماتك خرجت من قلب ووصلت لقلبي
الله يبلغنا يارب ونكون ممن يرسمون البسمة على وجوه المرضى ��