الثامنة صباحًا، بدأ يومنا في الطوارئ، كنت أنا وزميلتيّ في منطقة الفرز، نعاين الحالات بشكل أوليّ ونفرزها.. كان اليوم عاديّ جدًا في النصف ساعة التي انقضت، وفجأة، وصلت سيارة فيها أشخاص يصرخون، سرعان ما أحضر الممرضون السرير ووضعوا فوقه المريضة وفي لمح البصر نقلوها للغرفة، دُقّ جرس الطوارئ وصوته ارتفع في المكان، كل الأطباء توجهوا للغرفة وتوجهنا نحن معهم..
عند باب الغرفة، يقف رجل وسيدة.. الرجل صامت وعينيه مليئة بالدموع وهو يجيب على أسئلة الطبيب، السيدة تطلبنا أن ندعي لوالدتها و تبكي!
في الغرفة كل شخص يقوم بمهمة ما بدقّة وبتركيز وبسرعة!
في ثوانٍ معدودة بين سؤال الطبيب "متى فقدت الوعي والدتكم؟" وبين صورة الأشعة التي تؤكد أن انقباض القلب توقف وأن بؤبؤا العينين لا يتجاوبان.. صار الطبيب يهدئهم ويذكرهم بآيات الله، أُعلنت حالة الوفاة وخلت الغرفة من الكل ماعدا من السيدة التي تقبّل أقدام والدتها، يديها، رأسها وتبكي...
وأنا..
هذه أول مرة أكون فيها قريبة من الموت لهذه الدرجة، الموت الذي يكون راحة لهم وتعبًا لنا؛ لأنهم يرحلون عند الأحنّ ونبقى نحن هنا..
وقفت في مكاني كأني صنم! لا أتحرك، ولا أفعل أي شيء، زميلتي صارت تهدئ السيدة وتطبطب عليها، حاولت أن أهدئها معها قليلًا وبعد دقائق خرجتُ مسرعة للمكان الذي كنت فيه، تابعنا فرز المرضى وكأن شيء لم يكن..
لكن الحقيقة أن كل المشاعر كانت تثور في قلبي ولا تسكن، وأنا بكل قوة أحاول أن أدفنها في داخلي، أحاول أن أبدو قوية وأبتسم لكل المرضى..
الموت دائمًا يهزمني، دائمًا يذكرني بجدتي التي رحلت ويجعلني أبكي ولكني لن أبكي هنا، سأبتسم. وليعين الله قلبي الذي يبكي بصمت ويشهق..
بعد ساعات، أخبرت صديقتي "صِبا" بما حدث، عانقتني طويلًا وأخبرتني أني قوية! أعتقد أن عناقها هو الذي جعل يومي ذاك يمر بسلام حتى عدت للمنزل..
الشيء الذي جعلني أتذكر هذه الحادثة الآن أني اطّلعت على مدونتي وقرأتها مرة أخرى.. مرّت أكثر من سنتين على تدوينتي الأولى في سلسلة مواقف عميقة في المستشفى.. ومرّ على المشوار في كلية الطب أكثر من ما بقي.. ولا زلت في بعض المواقف أسأل نفسي: هل كان اختياري صحيح أو أنّي تأخرت جدًا في هذا السؤال؟
"اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين وعلّي منازلهم وارزقهم لذّة النظر لوجهك الكريم واربط على قلوبنا بالصبر وهوّن علينا الحياة بدونهم حتى نلقاهم ونلقاك، آمين"
الاثنين، ١٢:٢٠ ص
٢٦ ديسمبر ٢٠١٦.
No comments:
Post a Comment