يلزمك دافع قوي كالألم الشديد مثلًا لتشاركه مع طبيبك وتشكو إليه أوجاعك.. بينما تلزمك شجاعة كبيرة حتى تبوح له بأنك تسمع أصواتًا لا يسمعها من حولك، وترى أشياء لا يرونها، وتشعر بأنك محارب من الكل وأن أحدهم يدسّ السم في أكلك! وتلزمك جرأة أكبر حتى تستوعب أصلًا أن كل هذه الأشياء لا صحّة لها، وكلها مجرد خيالات وضلالات في ذهنك.. لا أساس لها.. ولا وجود لها.. إلا داخل رأسك! وحدك أنت ولا أحد غيرك يسمعها أو يراها!
سيناريوهات عديدة مرّت عليّ أثناء دراستي للطب النفسي.. نهايتها كانت بأن قواي خارت أمامي، صوتي صار ضعيف لا يُسمع وكل تفكيري انصبّ في نقطة واحدة: لك الحمد ياربّ على نعمة العقل والعافية! ربّ لا تُشقي بي أهلي..
أحد المرضى، كان السبب الرئيسي في حالته المرضية هو تعاطي المخدرات.
طفولته كانت جيدة.. علاقته مع أبويه وأهله كانت جيدة.. دراسته، تعليمه، وظيفته وكل شيء في حياته كان جيد.. كان ممتاز! غير أن أصدقائه حطّموا حياته كلها.
ماذنب أبويه؟ ماذنب أهله؟ ماذنب كل الليالي التي سهروا فيها ليطببوه إذا مرض وليمسحوا دمعه إذا بكى وليقرؤا عليه آية الكرسي، لينام..
ماذنب كل الأيام التي خرج فيها والده تحت لهيب الشمس يشقى من أجل راحته.. يكسب لقمة العيش ليوفر له حياة كريمة، تليق به..
ماذنب كل الاحتياجات الضرورية للمنزل التي تخلّوا عن شرائها من أجل لعبة له!
ماذنبهم.. أ لأنهم حلموا في يومٍ أن يصبح ابنهم هو الأفضل؟ وسعوا من أجل هذا الحلم؟
في لحظة، انهدم كل شيء.. من أجل لحظة ضعفٍ وهوى.. وأصدقاء سوء مثل نافخ الكِير، يحرقوا الثياب وتجد منهم ريحًا خبيثة..
تمهّل!
لو أنت طبيب فتمهل، لا تحكم عليه بهذا الشكل! لا تستفزك القصة ويغيب عنك الجوهر!
نحن كأطباء لا نلوم المرضى على مرضهم.. ولا نحاسبهم على أخطائهم مهما كبرت، نحن لسنا مخولين بالحكم ولا بالحساب ولا بتصنيف الخطايا أصلًا، نحن أقسمنا على أن نعالجهم فقط، بغض النظر عن أي شيء آخر.
كل هذه المقدمة التي بدت عاطفية، التي جعلتنا ولو للحظة نشعر بأن الشخص هذا مخطئ ويستحق العقاب لا نجعلها الفيصل بيننا وبين المرضى، أو أننا نحاول قدر المستطاع أن لا نجعل عاطفتنا هي التي تحكم تصرفاتنا وقراراتنا..
لكننا عاتبين على -بعض- المجتمع لأنهم لا يتقبلون حقائق بعض المرضى ويحكمون عليهم تبعًا لها.. ينبذونهم من المجتمع، يحرمونهم من الفرص الثانية لاثبات أنفسهم وإذا طلبوا المساعدة يتهربون منها كأنها حمل ثقيل لا يُقدر عليه.. أما نستطيع أن نكون فقط خير عون لهم؟ ونمد لهم يدنا بالعون ونسعى في مساعدتهم؟ إن كان هذا المريض أو غيره أخطأ في أحد قراراته فهذا لا يحتّم علينا أن نمتنع عن علاجه.. أو أن نجعله يشعر كأنه وصمة عارٍ وينغلق على نفسه ويرفض أن يتعالج.. إنه مثل أي مريض آخر يشتكي من علة، غير أنه يحتاج لدعم المجتمع كله كي يتخطاها بنجاح ولا ينتكس.. حقيقة، إن جلّ مايحتاجه،، فرصة أخرى وكثير من الصبر كي ينجح!
المريضة الأخرى كانت تسمع أصوات أشخاص وتراهم، يتحدثون معها، يأمرونها بفعل أشياء وترك أخرى.. كم هو منهك أنك تسمع ما لا يُسمع.. وترى ما لا يـُرى، وأنت مؤمنٌ تمامًا بأنك تسمع الأصوات هذه.. وترى التصورات هذه.. لأنها موجودة! لأنها حقيقية! لأنها فقط.. داخل رأسك!
أن تصبح حياتك سيئة لدرجةٍ تتمنى فيها الموت.. تفكر فيها بالانتحار.. أو تتمنى الموت لأحدهم.. لأنك تظن أنه يسيء لك.. أن تعيش عمرك كله وأنت مؤمن بأنك لست مريضًا، ولا تشتكي من أي علّة.. أن تكف عن تناول أدويتك لأنك لست مريضًا فتدخل في نوبة أشد من سابقتها.. أنك تظن أن العالم كله خاطئ وأنت الصواب الوحيد في العالم كله.. أن تظن أن الأفكار التي تفكر بها هي أفكار شخص آخر، أو أن أي شخص عابرٍ يستطيع قراءة أفكارك.. أن تشك في كل شيء حولك، حتى أقرب الناس لك وتظن أنهم يخططون لإيذائك.. أن تتحدث بطريقة لا تُفهم، والكل يضحك عليك.. أن تغسل يديك عشرات المرات وتكرر كلماتك وجملك مرة بعد مرة بعد مرة.. أن تصاب بنوبات من السعادة المفاجئة تتبعها نوبات اكتئاب حادّة.. أن تكون غير واعٍ لتصرفاتك فتتصرف بشكل مخجلٍ ولا تدرك ذلك.. أن تشتكي من مشكلة بداخل رأسك لا أعراض لها على جسدك.. يفهمك الطبيب تمامًا، وفي المقابل يجعلك المجتمع الذي تعيش فيه أضحوكة.. ويقول عنك.. هذا “نفسية!"
في "عنبر المجانين".. كل شيء خيالي: حقيقة..
~
قد نقلل من أهمية أو خطورة الأمراض النفسية؛ لأننا لا نراها.. أو لا نشعر بها.. لكنها موجودة! في المرة المقبلة التي تسمع فيها قصة مثل هذه القصص أرجوك لا تحكم على الشخص، لا تلمه أو تحلل حياته باجتهادك الشخصي! تذكر أن القصة لها أطراف كثيرة لم تسمع منهم تفاصيلها وأنك لا ترى إلا جزء صغيرًا من الصورة!
ديسمبر،١٦،٢٠١٥
ملاك المرغوب..
No comments:
Post a Comment