كان الكلام ممتلئ في رأسي والمشاعر المتضادة كلها شعرت بها لحظتها. مابين خوف وذهول كتمت أنفاسي، ترقب وانتظار، عينان مليئتان بالدهشة، لسان يسبّح الله وقلب لا يشعر سوى بالامتنان لأمي!
يالله.. كم هي طويلة دقائق الانتظار.. مليئة بالترقب والخوف والرهبة والألم.. وبرغم أن القلب وجِل والعينين شاخصة للسماء تبكي والألم يعتصر الجسد.. قطرات العرق تغطي الجبين، اليد تشد على اليد بقوة، حديث يدور لا يُفهم وأضواء قوية تعمي البصر، رائحة معقمات المستشفى تفوح في الجو، جسد مكشوف وأصوات مزعجة، طبيب يصرخ: "خدي نفس".. هذا كله تغيّر منذ الصرخة الأولى والبكاء الأول!
تبدّل الخوف لحب والرهبة لحنان.. صارت العينين تبكي من الفرحة والقلب يرقص طربًا لبكاء الطفل الجديد..
تحوّلت علامات الألم لأمل، والتعب لسعادة وكل آه لـزغروطة فرح وللحمدلله..
كأن الفرق بين المشهدين سنين عديدة ولكنها في الحقيقة ثوانٍ معدودة تمثلت في بكاءٍ حاد! كأن الألم الطويل الذي عانت منه الأم لساعات تفوق التسع ساعات انمحى! كأن الحِمل الذي كان ثقيلًا عليها في التسعة أشهر الفائتة اتنسى! كأن الليالي الكثيرة التي سهرتها من ألم بطنها لم تحدث! وكأن صباحاتها المتتالية التي كرهتها بسبب الغثيان لم تكن!
لمعة العين التي كانت تعكس دموع الألم والخوف تحولت لأمل، لحب، لحنان، لامتنان ورحمة واحتواء!
كأنها قبل بكاء الطفل كانت شخص والآن هي شخص آخر تمامًا، الحنان في نظرة الأم في ثوانٍ أودعه الله لها..
وصارت: أم.
هذا الحدث وحده كفيل بالتتويج والاحتفال! هذا الحدث هو أهم حدث في حياة أي امرأة. أن تخرج روحًا من أحشائها وأن تصبح السكن والمأوى لهذه الروح الجديدة! أن تكون الأمان له إذا تمرّد عليه العالم، أن تكون القلب الذي لا يمل ولا يكل من تصرفاته الغير متوقعة! هذا حدث يستحق الانتظار تسعة أشهر، يستحق البكاء المتواصل والمزاج المتقلب ونظام الحياة المختلف والمقلوب رأسًا على عقب..
كل هذا حدث وأنا في قرارة قلبي أتمتم: ياربّ كن حنونًا مع أمي كما صبرت عليّ وحنّت! يارب أمي.. يارب أمي.. يارب أمي.. وأنت أحنّ عليّ منها وأنت أرقّ عليّ منها وأنت أعظم وأنت أكرم وأنت أرحم.
نزلت من عيني دمعة تبعتها دمعات أخرى.. فكّرت.. ماذا لو كنت أنا؟ هل سأتحمل؟ هل سأصبر؟ هل سأحب الطفل الذي سلب مني حياتي التي أعيشها بحرية وهل سأضحّي من أجله حتى يكبر؟ هل سأترك طموحاتي وأحلامي الكبيرة من أجل أن أسهر الليل معه لينام؟ هل سعادتي بنجاحه تفوق سعادتي حينما أنجح أنا؟ وهل سأتغيب عن العمل لأنه متوعّك ويحتاجني بجانبه أهدهده؟ أو هل سأعتذر عن موعد مع صديقاتي لأني سأذهب معه لحفلة عيد ميلاد صديقه مثلًا؟
وفي المقابل تذكرت أمي..
كم مرة حرمت نفسها من أشياء كانت تنتظرها العمر كله لكي توفر لنا لعبة! وكم مرة استيقظت من نومها لأن أحدنا كان يبكي! وكم مرة صبرت على طيشنا، مراهقتنا، جنوننا ولا مبالاتنا وأنانيتنا التعيسة! وكم مرة آثرت سعادتنا على سعادتها! كم دمعة ذرفتها في جناح الليل حتى نستيقظ الصباح ونرى أمانينا محقّقة! وكم مرة كانت منهمكة في المطبخ تعد الغداء لنا فاحترقت يدها من الفرن! وكم مرة حدث الشيء نفسه حين كانت تكوي لنا ثيابنا! كم مرة وكم مرة وكم مرة..
هذه المرة حين حضرت الولادة اختلفت نظرتي.. صحيح أن جوارحي كلها سبحت الله على إعجازه الذي شهدته وصحيح أن دهشتي كانت كفيلة بأن تجعلني أردد: (فتبارك الله أحسن الخالقين) صدق الله العظيم!
ولكن جوارحي كلها كانت تتمتم: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ أمي ثم أمي ثم أمي..
لو صرت أمًا، أكبر أمنياتي أن أكون نسخة مصغرة عن أمي. بكل تفاصيلها، بضحكاتها الخجولة وابتسامتها البسيطة وروحها الطاهرة.. بعصبيّتها وتوبيخها لنا وخوفها علينا.. بكل شيء.. بكل شيء.. بكل شيء..
أحبك ياأمي! وأدعو الله أن يرزقني برّك ووالدي ماحييت، وأن أكون ابنة ترفع ذكركم عاليًا في الأرض وفي السماء السابعة وعند الله بين الملائكة ❤️
ملاك المرغوب.
هذا ماحدث في غرفة الولادة في العاشر من يوليو ٢٠١٥.
مستشفى جامعة الملك عبدالعزيز، جدة، السعودية.
كُتبت بتاريخ ٣٠ يوليو ٢٠١٥. ٦:١٢ صباحًا.
مابين دبي، الإمارات العربية المتحدة واسطنبول، تركيا.
أنا ووالدتي العزيزة سامية صدّيق في صبنجة، تركيا
الجمعة، ٣١ يوليو ٢٠١٥م